جَلَسَتْ في الطّائِرَةِ شابَةٌ جَميلَةٌ هِيَ طَبيبَةٌ مُتَخَصّصَةٌ في جِراحَةِ العُيونِ وَأُستاذَةٌ مُحاضِرةٌ في إِحدَى الجامِعاتِ العَريقَة... وَبِالقُربِ مِنها جَلَسَتْ شابَةٌ سَمراءُ البَشَرَةِ، لَدَيها تَشَوُّهٌ بَسيطٌ في وَجهِها وَتَبدو عَلَيها عَلاماتُ البَساطَةِ وَالفَقر... إِمتَعَضَتِ الطَّبيبَةُ مِن شَكلِ هذهِ الشّابَة وَاستَعلَمَتْ مِنها عَن سَبَبِ التَّشَوُّهِ في وَجهِها... فَأَخبَرَتْها أَنّهُ ناتِجٌ عَن حَريقٍ هَبَّ في الفُرنِ في المَنزِلِ الّذي تَعمَلُ فيهِ كَخادِمَة!
عِندَها جُنَّ جُنونُ الطَّبيبَة واستَدْعَتِ المُضيفَةَ وَراحَتْ تَصيحُ بِصَوتٍ عالٍ:«مِنَ الواضِحِ أَنَّكِ لا تَرينَ الوَضعَ الّذي أَنا فيه، لَقَد أَجلَستُموني، أَنا الدُّكتورَة، إلى جانِبِ خادِمَة! وَأَنا لا أُوافِقُ أَن أَكونَ إلى جانِبِ شَخصٍ مُقرِف! يَجِبُ أَن تُوَفِّروا لي مَقعَدًا بَديلاً!»
    فَقالَتْ لَها المُضيفَة:«إِهدَئي يا سَيِّدَتي، كُلّ المَقاعِد في هَذِهِ الرِّحلَة مُمتَلِئَة تَقريبًا، لَكِن دَعيني أَبحَثُ عَن مَقعدٍ خالٍ...»
    غابَتِ المُضيفَةُ لِعِدّةِ دَقائِق ثُمّ عادَتْ وَقالَتْ لَها:«سَيِّدَتي، كَما قُلْتُ لَكِ، لم أَجِدْ مَقعَدًا واحِدًا خالِيًّا في كُلّ الدَّرَجَةِ السِّياحِيَّة. إنّما وجدْتُ مَقعَدًا واحِدًا خاليًا في الدَّرَجَةِ الأولى!!!»
    وَقَبلَ أَن تَقولَ الطَّبيبَةُ أَيَّ شَيء، أَكمَلَتِ المُضيفَةُ كَلامَها: «لَيسَ مِن المُعتادِ في شَرِكَتِنا أن نَسمَحَ لِراكِبٍ من الدَّرَجَةِ السِّياحِيَّةِ أَن يَجلِسَ في الدَّرجَةِ الأولى المُمتازَة. لَكِن وِفقًا لِهَذِهِ الظُّروفِ الإستِثنائِيَّة فَإنَّ الكابتِن يَشعُرُ أَنّهُ مِن غَيرِ اللاّئِقِ أَن نُرغِمَ أَحَدًا أَن يَجلِسَ إلى جانِبِ شَخصٍ مُشوَّه لِهَذا الحَدّ، لِذَلِكَ (وَالتَفَتَتْ المُضيفَةُ نَحوَ المَرأَة السَّمراء وَقالَت) سَيِّدَتي، هَل يُمكِنُكِ أَن تَحمِلي حَقيبَتَكِ اليَدَوِيّة وَتَتبَعيني، فَهُناكَ مَقعدٌ يَنتَظِرُكِ في الدَّرجَةِ الأولى المُمتازَة!!!»
    في هَذِهِ اللَّحظَة وَقَفَ الرُّكّابُ المَذهولون الّذين كانوا يُتابِعونَ المَوقفَ مُنذُ بِدايَتِهِ وَصَفَّقوا بِحَرارَةٍ لِلمُضيفَةِ لِتَأديبِها غَيرِ المُباشَرِ لِلطَّبيبَةِ المَغرورَة...

 

مَخلوقون مِن «نطفة»
وَأَصلُنا من «طين»
وَأَرقَى ثِيابنا مِن «دودَة»
وَأَشهَى طَعامنا مِن «نَحلَة»
ومَرقَدنا «حفرة تَحتَ الأرض»
فَلِماذا التَّكَـبُّر!!؟

 

Attachment
echos-193-p3.pdf (0 bytes)