ما هِيَ التّربِية الإيمانيَّة ؟
إنَّ كَلِمَةَ تربِيَةٍ تَعني عَمَليَّة قيادَةٍ وانتِقَالٍ من حالَةٍ إلى حالَةٍ أفْضَل .
التَّربِيَةُ تَهدفُ إلى تَهذيبِ سُلوكِ الإنْسانِ كَي يَصِلَ إلى مِلءِ إنْسانيَّته. فَهيَ تُساعِدُ الأشخاصَ علَى تَكوينِ شخصيَّتِهم وعَلى تَكوينِ مواقِفَ عمَليَّة وعِلْمِيَّة واجْتِماعيَّة وخُلُقيَّة وجَماليَّة ودينيَّة. وهَذه المواقِفُ تعتَمِدُ على القِيَمِ الإنْسانِيَّة والإنجيليَّة لأنَّ الإنسانَ هوَ قيمَةٌ بِحَدِّ ذاتِهِ لهُ احْتِرامُه وكرامَتُهُ وحقُّهُ في العَيشِ الكَريمِ والصَّحِيح.
هدَفُ التَّربِيةِ أن تَجعَلَ من المَولُودِ الصَّغيرِ إنْساناً كامِلاً. ليسَ كَما نتَصوَّرْهُ نَحنُ ولَكنْ كامِلاً كَما أنَّ المَسيحَ هُوَ كامِل.
كُلّنا نَعرِفُ أنَّ علَيْنا أن نَصِلَ إلى مِلءِ قامَةِ المَسيح، أعْنِي بِذلِكَ أنَّ النَّموذجَ موجُودٌ أمامَ أعْيُنِنا ونَحنُ كأهلٍ نُساهِمُ في تَحقيقِ هَذا النُّموذَج وفي وَضْعِ الخُططِ العَمَلِيَّة لِذَلِك.
نَحنُ المسيحيُّونَ نُؤمِنُ بشِخْصِ يَسوعِ المَسيح الحَيّ. لا يَقتَصرُ إيمانُنَا على المعرِفَة أو عَلى المُمارَسة، إنّما هوَ هِبَةٌ مجَّانِيَّة كي نَتَعرَّفَ إلى يَسـوعَ المَسـيح ونَلْتَقي مَعَُه ونَتَّحِدَ بِهِ فنكونُ » مسيحًا« آخَر. فالإيمانُ لا يَقتَصِرُ عَلَى أفْكارٍ نُرَدِّدُها ولا عَلى جُمَلٍ نُدَّرِسُها. هو حَياتُنا وحَياتُنَا اليَوميَّة.
مَعرِفَةُ الوَلَد
سأكْتَفي بإلْقاءِ بَعضِ الأضْوَاءِ على المَبادِئَ الأسَاسِيَّة في نُمُوِّ الوَلدِ ودَورِ العائِلَة. فهناك مَبْدَآن أسَاسِيَّانِ لِمَعْرِفَة نَفْسيَّةِ الوَلَد:
1- الولَدُ ليسَ صَفْحَةً بَيضاءَ أو عَجينَةً لَيِّنَة لَكِّنَهُ طاقَاتٌ وقُدُرَاتٌ ومواهِبُ.وهيَ تولَدُ مَعَهُ. مَثَلًا: الذَّكاء، الطَّبعُ الهادِئ أو العَنيف... و للوَلَدِ مُيولٌ عَديدَة تَتبَلْوَرُ لاحِقٍَا باتِّجاهَاتٍ فنِّية أو مِهنيَّة أو غيره .
الولَدُ يَمرُّ خلالَ نُمُوِّهِ بمراحِلَ لها ميزاتُها الخاصَّة. وكُلُّ تَصرُّفٍ يَجبُ أن نفهَمَهُ حسبَ العُمْرِ أو مرحَلة العُمر الَّتي يَقْطَعُها. مثَلا:
- قَد نُلاحِظُ القَسَاوَة: ضَربُ الهرّ/قَتْلُ الْعُصفور/ تَعذيبُ الحَيوانِ أو غيره، عدَمُ الحَياء... هَذه التَّصَرُّفات هِيَ طبيعيَّة، بَلْ من مُتَطلِّبات النُّموِّ في الطُّفولَةِ الأولَى (2-3 سنوات). ولكنَّها تُصبِِحُ مَصْدَرَ قَلَقٍ إذا ظَهرَتْ في مَرحلة (5-6 سنوات)و خاصَّة الكَذِب والتَّخَيُّل.
- التّعلُّق الزّائدُ بالأهل:ضروريٌّ للطُّفولَة.. .. الثَّورَةُ والتَّمرُّدُ ضروريّان في مَرحَلِة البُلوغ.
2- قُبولُ الوَلَدِ ومحبَّتُه: مَحَبَّةُ الولَدِ لا تَعنِي عِبادَتَهُ أو تَحقيقَ كُلِّ مَطالِبِه والقيامَ بخِدمَتِه ِكَسَيِّدٍ مُطلَقٍ ولا الشّعورَ بالضَّعف تجاهَهُ. إنَّها مَحبَّة مَبْنِيَّة على عاطِفَةٍ مُتَّزِنَةٍ ، عَميقَةٍ نَحوَ الوَلد وعلى تَفاهُمٍ في سَبيلِ مَصلَحَتِه وفي سَبيلِ مُستَقْبَله. إنَّ الوَلَدَ كائِنٌ مُسـتَقبَلِيّ، لِذا يَجِبُ أن لا نَراهُ من خلالِ أنْفُسنا أو من خِلالِ ماضِينا . يجبُ أن نُحِبَّهُ لِنَفْسِهِ ولا لِنَفْسِنا. لا لأنَّهُ يُنَفِّذُ ما نَطلُبُه مِنهُ أو لأنَّه يُطيعُنا.
المحبَّةُ تَفتَرِضُ أن نَقبَلَ الوَلَدَ لِشَخْصِهِ ، أن نَكتَشِفَ مواهِبَهُ وقُدراتِهِ فنُساعِدهُ كَي يُنَمِّيَها وأن نقبَلَهُ بِنقائِصه فَنُساعِدهُ على تَجاوُزِها لا أن نَعتَبِرَها عَيْباً يُنقِصُ من قيمَةِ شَخْصِه. ويجبُ أحيانًا الاعْتِرافُ الهادِئُ بأنَّ قُدُراتِ هَذا الولَد مَحْدودَةٌ، فلا نَطلُبُ منهُ أكثَرَ من طاقَتِه وعَلينَا أن نَحتَرِمَ ما يَستطيعُ أن يُعطِي وأن نُشَجِّعَهُ لا أن نُوبِّخَه_ُ ونُحَقِّرَهُ أو نذُلَّهُ ( أنْتَ هيك- مِشْ طالِعْ منَّكْ شِي) لأنَّ الوَلَدَ قد يَفقُدُ الثَّقَة بالذَّات ويَشعُرُ بالدُّونِيَّة فيلْجَأ إلى الانْغِلاقِ علَى الذَّات و إلى العُدْوَانيَّة مع القَلَقِ أو يلجأ إلى الهُروبِ والتَّعويضِ خارجِ إرادَة الأهلِ أو البَيت.
عَلينَا أن نُنَمِّي قُدُراتِ الوَلَدِ لا أن نَكْبُتَها (إذا لم تُعْجِبْنا) أو أن نَستَبْدِلَها بِغَيْرِها. (بدِّي ابْني يْصيرْ دكْتور أو مهنْدِس أو خُوري...).
الهدَفُ الأوَّلُ في التَّربِية هُوَ إنْمَاءُ شَخصيَّةِ الوَلَدِ بِكُلِّ أبعادِهَا الإنْسانِيَّة ومُساعَدَتُهُ على أَخْذِ المُبادَراتِ والمواقِفِ الشَّخْصيَّة كَي يتوصَّلَ إلى اللِّقاءِ بِيَسوعَ المسيح والتَّعَرُّفِ إليه.
تربية الإيمان
لا تأتِي تَربيةُ الإيمانِ بِشكْلِ طِلاءٍ خَارِجِيٍّ ولا قِناعٍ نَلبُسُهُ متَى نَشاء. تَربِيةُ الإيمانِ هي تَربيةُ الإنْسانِ على القِيَمِ الحَقيقيَّةِ وهذه التَّرِبيةُ هي خَاصَّةٌ بالعائلة. لماذا ؟
لأنَّ العائلةَ هِيَ »الكنيسَةُ الأولى« كما يَقولُ قداسَةُ البابا ولأنَّ دعَوتَها الأسـاسيَّة هي الاشْـِتراكُ في عَمَلِ اللَّه الخلّاق.
»ذَلِكَ أنَّ الوالِدَين ، بإيلادِهِم في الحُبِّ ومن الحُبِّ إنْساناً جَديداً يحمِلُ في ذاتِهِ دَعوةً إلى النُّموِّ والتَّطوُّرِ كي يَحيَا حياةً إنسانيَّةً كامِلَة« . فَمنْ واجِبِ الأهْلِ خَلقُ الجوِّ العَائليّ الّذي تَسودُهُ المحبَّة والاحْتِرامُ والأمانَةُ والصِّدْقُ تجاهَ اللَّه والنَّاس. فالعائِلةُ هي المدرَسَةُ الأولى لِلْفَضائِلِ الاجْتِماعيَّة والإنْسانِيَّة والمسيحيَّة.
فحُبُّ الأهل الَّذي كان كما قُلْنا يُنْبوعاً يُصِبحُ قاعِدَةً وروحاً تُحَرِّكُ وتُسَيِّرُ كُلَّ نَشاطٍ تَربَويٍّ عَملِيًّ وتُغنيه بِهذه القِيمِ وهي الرّقَةُ والثَّباتُ والطِّيبَة والخِدْمَة والتَّجَرُّد ورُوحُ التَّضحِية والعَطاءِ الَّتي هي أثْمَنُ ثِماِر الحُبِّ. وتربِيَةُ الأهْلِ في السَّنواتِ الأوْلى لأبْنائِهم تُمَكِّنُهم لاحِقًا من تَوجيهِ حياتِهم الشَّخْصيَّة بِحسب الإنسانِ الجَديدِ في البِرِّ والقَداسَةِ والحَقّ (أفسس 4/22-24 ) وهَكَذا إذا ما بَلغُوا إلى مَستوى الإنْسان الكامِل، إلى مِلء قامَةِ المَسيح (أفسس 4/13 ) وساهَمُوا في نموّ أداءِ الشَّهادَةِ للرَّجَاء الَّذي فيهِم، والمُساهَمَة في تَطويرِ العالَمِ تَطويراً مَسيحيّاً.
من المهمِّ جِدّاً أن يُعطي الَأهل وَقْتاً لأولادِهِم كَي يتَحدَّثُوا إليهِم كي يَسمَعوهُمْ كي يَلْعَبوا مَعَهُم. والوَلَدُ في حاجَةٍ إلى بالِغٍ يَقضِي معَهُ بعضَ الوَقْت.
من المهمِّ جِدّاً أن يُشَجِّعَ الأهلُ الأولادَ لكي يأتُوا إلى التَّعليمِ وإلى الكنيسَةِ لانَّ الرَّبَّ يَحفَظُهُم لَهم فَلا يَعودُونَ يَنْجَرّون إلى البِدَعِ بل يجدُونَ الحُبَّ حيثُ يجِدُه أهلُهُم.
لذلِكَ يَقولُ المجمَعُ الفاتيكانِيّ الثَّانيّ: »إنَّ رِسالَةَ العائِلةِ التَّربويَة هي خِدمَةٌ يُنقَلُ بِواسِطَتِها الإنجيلُ ويُنشَرُ بحيث تُصبِِحُ الحياةُ العائِليَّةُ مسيرَةَ إيمانٍ وتَلقيناً أوليّاً للمبادِئ المسيحيّة ، ومدرسَةً لِلسّيْرِ في خُطى المَسيح«. وبِفَضلِ هَذِه الخِدْمَة وبِفَضْلِ شهادَةِ الحَياةِ عينِها، الأهْلُ هُم أوَّلُ من يُبَشِّرونَ أبْنَاءَهُم بالإنجيل . وإذا ما صَلُّوا وقَرَأوا كلامَ اللَّه مَعَهُم وأدْخَلوهُمْ في صَميمِ جَسَدِ المَسيحِ الإفْخارِسْتيّ والكنسيّ، كانُوا والِدَين حَقّاً أعني أنَّهم لا يكونوا قد وَلَدوا الحياةَ الجَسديَّة وحَسب، بل أيْضًا تِلكَ الحياةُ الّتي تَجْرِي، بواسِطَةِ التَّجَرُّدِ بالرُّوحِ، من صَليبِ المَسيح وقيامَتِه.
ويقولُ لنا قَداسَةُ البابا بولُس السَّاِدس: »يَجِبُ أن تَكونَ العائِلةُ، كالكَنيسَةِ ، المكانَ الَّذي يُنقَلُ إليهِ الإنْجيلِ ويَشِعَّ منهُ الإنْجيلُ« ويَزيدُ على ذَلِكَ بأنَّ مُستقبَلَ التَّْبشيرِ بالإنْجيلِ يتوَقَّفُ إلى حَدٍّ كَبيرٍ على الكنيسَةِ المَنزِليَّة أي العائلَة الَّتي هي »كنيسة بيتيَّة« أي المكان الوحيد الّذي يَتَمَكَّنُ الأولادُ فيهِ والشُّبَّان من تَلَقِّي التَّعليمِ المَسيحيِّ الأصيل. وبما أنَّ سِرَّ الزَّواجِ المُقَدَّس هُوَ تَحقيقٌ لِقَصدِ اللَّه الحَكيمِ المُحِبّ، علَى الكنيسَةِ الصُّغْرَى المنزِِلية واجبُ إعلانِ كَلِمَةِ اللَّه على غِرارِ الكنيسَةِ الكُبَْرى والاهتمامُ المُتواصِلُ بالتَّربِية عَلى الإيمانِ. فَنَشْرُ الإنْجيلِ يَرتَدي مَعانِي الحياةِ العائِليَّة المُمَيَّزَة لأنَّها نَسجُ حُبٍّ يَوميٍّ وبساطَة وفاعِليَّة وشَهادَة يَوميَّة.
كيفَ يُصالِحُ الأهلُ المُجرِمينَ فيهم؛ كيفَ يُعلِنونَ عن إيمانِهم و كيفَ يُصلُّونَ ؟
كيفَ يَخْدُمُ كُلٌّ الآخرَ بِفرحٍ وأمانَةٍ وسخَاءٍ ؟ كيف تَتَحَمَّلُ العائلَةُ الآلامَ والمَشاكِلَ وكيفَ تَحمِلُ الصَّليبَ ؟كيف يحبُّ الأهلُ أولادَهُم حينَ يرفُضونَ الإيمانَ ويَشهَدونَ لإيمانِهِم ؟
كيف يَعيشونَ الانْدِفاعَ الرَّسوليّ ويُدافِعونَ عَن الإيمانِ وهم رُسلٌ للحُبِّ والحَيَاة ؟
كيف َيتأصَّلونَ في سرِّ الزَّواجِ ويتغَذُّونَ مِنهُ ويَحْيونَ بالرَّبِّ يَسوع عن طَريقِ ممُارَسَةِ الأسْرارِ وبِواسِطَةِ تَقديمِ الذَّاتِ والصَّلاة؟
سِرُّ الافْخارِسْتيّا جَسدٌ واحدٌ تَتجَلّى فيه وحدَة ُالكنيسَةِ وسِرُّ المُصالحَة يُعزِّزُ المَغفِرَةَ والنَّدامَة المُتبادَلة في الحياة اليَوميَّة.
إمّا الصَّلاةُ العائلية فضرورِيّة في جَميعِ ظُروفِ الحيَاة: الأفْراح، الأتْراح، الآمال والأحْزان والولادات، يوبيل الزَّواج، الاختيارات الخَطيرَة الحاسِمَة. كُلُّ هذه الأحداث الَّتي تُظْهرُ مَحبَّةَ اللَّه الَّذي يتدخَلُّ في مَجْرَى حياةِ العائلة، تُشيرُ إلى الوَقْتِ المُناسِب للصَّلاة والشُّكْر.
إنَّ الأهلَ الَّذينَ يُصَلُّونَ مع أبنائِهم يُمارِسونَ الكَهنوتَ المُلوكيّ. »يَجِبُ على الأولادِ أن يَتعلَّمُوا مُنذُ نُعومَةِ أظافِرهِم، وتجاوُبًا مع الإيمانِ الّذي قَبِلوه في العِماد ، كيفَ يَكتَشِفونَ اللَّه ويُكرِّمونَه وكيفَ يُحبُّونَ القَريبَ.
الاحتِفالاتُ الطَّقسيَّة في البيتِ وصلاةُ المَسبحَةِ والصَّلاةُ إجْمالاً تُساعِدُ العائِلةَ كي تتَحَمَّلَ مَسؤوليَّتها كامِلَة.
- والمحبَّة تَتعدَّى في الحقيقَةِ نِطاقَ الأخوة في الإيمان لأنَّ » كُلَّ إنسانٍ إنّما هُوَ أخٌ لي« وتَكتَشِفُ المحبَّةُ في كُلِّ إنْسانٍ ولاسيَّما المِعوَز، والفَقير والمُتألِّم والمَظلوم، وَجْهَ المسيحِ والأخِ الَّذي يجبُ أن يُحاطَ بالمحبَّة والخِدمَة.
الأخت وردة مكسور - مُديرة مركز التَّربية الدِّينيَّة - راهبات القلبَين الأقدَسين
- 1783 views