"مركز التربية الدينية" لراهبات القلبين الأقدسين
كتب لكل الصفوف ومجلتان ودورات تنشئة وإصدارات ...
في اوج عطائه... مركز التربية الدينية التابع لراهبات القلبين الاقدسين. بعد اكثر من 28 عاما من العمل المتواصل والخبرات التربوية المتراكمة، جمع في رصيده ثمارا كثيرة: كتب تعليم ديني مسيحي لكل الصفوف المدرسية، من الحضانة الى الثانوي، مجلتان واسعتا الافق، دورات تنشئة وتدريب، وغيره. من خلال "التربية الناشطة"، يحقق خطواته المتلاحقة، وبها يوصل "الكلمة" الى طلاب كثيرين في لبنان ودول عربية وخليجية، والهدف بناء "الانسان بكليته". وفي كل ذلك، يقدم نموذجًا في نشر الرسالة المسيحية في المنطقة العربية.
(من اليسار) الاخت مكسور وقوفاً، والاب الرئيس (الثالث) جلوساً خلال إحدى دورات التنشئة |
العام 1976، توصّلت راهبات القلبين الاقدسين الى استنتاج انه من المهم جدا الاهتمام بالتربية الدينية المسيحية. وتقول مديرة المركز الاخت وردة مكسور لـ"النهار": "للرهبانية مدارس منتشرة في مختلف المناطق تؤمن التربية في كل المواد. وكان لا بد من الاهتمام بالتربية الدينية". وانطلاقا من هذا الاقتناع، عيّنت الرهبانية لجنة وطلبت منها درس الوضع والخروج باقتراحات. ومكسور، التي أنهت في ذلك العام دراستها في فرنسا، كانت من ابرز اعضائها. "عقدنا يومذاك اجتماعات مع كل معلمي التربية، وجلنا على مختلف المدارس. ثم وضعنا تصورا حول القضايا التي يجب التركيز عليها، وقلنا بضرورة ان تكون هناك مرجعية في هذا الاطار".
من مظاهر تلك المرحلة، غياب كتب تربية دينية بالعربية. "كانت كل الكتب المعتمدة لدينا بالفرنسية، وكان التعليم المسيحي يشرح ايضا بالفرنسية"، تتذكر. "لم تكن هناك مجلة للطلاب، او كتاب مقدس صغير سهل الحمل. كانت هناك قضايا اساسية غير مؤمنة. وبتعاوننا مع الآباء اليسوعيين، صدر الكتاب المقدس بالحجم الصغير، وبنوعية تسهل القراءة لمن يرغبون في فهمه من دون دروس علمية". وبتعيين الرهبانية مكسور مسؤولة عن التعليم الديني، طلبت الاخيرة انشاء مركز، "ابتداء من مدرسة".
البدايات وقرار بالتعميم
كانت يومذاك في مدرسة راهبات القلبين الاقدسين- السيوفي. "ابتدأت وراهبة اخرى العمل في الصف السادس بالعربية. كان ذلك العام 1980. طلبنا ان نقوم بخبرة حتى نهاية السنة". وفي نهاية السنة، كانت النتيجة واضحة: "نجحت الخبرة. وطلبت الرهبانية توسيعها الى صفوف اخرى. وواصلنا العمل في المدرسة نفسها". وشمل، الى مكسور، خمس او ست راهبات. "وبتوزيعهن لاحقا الى مختلف بيوت الرهبانية، طلبن الحصول على نسخ مما تم انجازه. وفي الوقت نفسه، لمست الرهبانية لدى الاولاد الذين شاركوا في التجربة رغبة في هذا التعليم. وبعدما درست المواد التي اعطيت لهم، قررت تعميمها".
تبعا لهذا القرار، طلبت مكسور تعزيز فريقها. فانضم اليه الاب هاني الريس اليسوعي من عام 1982. "جددنا التجربة، وعملنا معا. وقضت مهمتنا باعادة قراءة ما كتب، وتصحيحه، واعداده بطريقة ملائمة للطلاب"، تشرح. ومن ذلك العام، تطور المركز اكثر فأكثر، وتوسع فريق عمله. "في التربية الدينية المسيحية، شعرنا بان ثمة حاجة الى مواكبة الولد بتطوره النفساني، وايضا الذكي، اي امكانه على الاستيعاب. وهذا ما تميزت به الطريقة التي اعتمدناها، بحيث كنا نعمل عاما او عامين مع الاولاد، لنتوصل في ضوء الخبرة الى تحديد ما يناسب اعمارهم".
من اصدارات "مركز التربية الدينية". |
وانطلاقا من تجربة عملها في مجلس كنائس الشرق الاوسط، "هذه الحركة المسكونية الكبيرة"، على ما تسميه مكسور، وجدت انه من المهم "ان يكون بين الايدي الكتاب المقدس الذي تتفق عليه كل الكنائس المسيحية كاساس لايمانها". وتقول: "طلبت ان تكون في يد كل ولد نسخة من الكتاب المقدس، لان لمسة الكتاب مهمة. وهذا التوجيه المسكوني كان بمعنى الانفتاح واخذ ما هو مشترك بين مختلف الكنائس. وبعد التطور في كتابة الكتب، فتحنا آفاقا امام كل الكنائس، بالاضاءة على مختلف الفروق بينها...".
وكانت الخطوة التالية، "بعد تركيز المنهاج وتطويره انطلاقا من الكتاب المقدس"، انشاء مجلة "اكو" في العام نفسه، "اي مجلة الثقافة الدينية التي تكمل التعليم الديني"، على قولها، وتعالج قضايا اجتماعية تشغل بال الطلاب، وتشكل وسيلة تواصل بينهم بين المدارس. "لقد اردت بها ان تكون مجالا حرا ليقرأ فيه الطلاب ويكتبوا ويتحاوروا ويعبّروا عن آرائهم، في موازاة تنمية ايمانهم في التعليم الديني بطريقة تدرجية تتبع خطا معينا وتولد لديهم منطقا ايمانيا ايضا".
التربية الناشطة: بناء الانسان
طريقة التربية التي يعتمدها المركز تسمى "التربية الناشطة". وتشرح مكسور ان "الجهد الذي بذلناه في هذا الاطار ارتكز على كيفية تطور التعليم الديني المسيحي مع علم التربية الذي تطور بدوره في هذا العصر في شكل كبير. وقد واكبنا هذا التطور". وفي ضوء ذلك، وانطلاقا من رغبة المركز في مرافقة معلمي التربية الدينية، اصدر مجلة "كاتا" العام 1986، والتي جمع فيها "كل مستجدات" تفيدهم، وتجعلهم يواكبون هذا التطور، لاسيما على الصعيدين التربوي والتقني.
والاهمية التي يعولها المركز على "التربية الناشطة" كبيرة. فبها تم الانتقال من "منهجية ترتكز على المعلومة الموجهة الى الولد الى التركيز على المتعلم، الذي هو الولد، محور التعليم"، تقول. "ليس الهدف المعلومة في ذاتها بقدر ما هو الولد، لان المعلومة تجعله يبحث، يفكر، يسأل، يحاور، وبالتالي بات يستطيع، انطلاقا من معلوماته، ان يصلي او يتجه بطريقة مسؤولة نحو الله، خالقه. والمعلم اخذ دورا جديدا، اذ لم يعد الملقن، بل اصبح المرافق والمنشط والموجه والمصحح. وهذا الامر جعل الولد، ليس مجرد مستمع، بل مشاركا في تعلمه، مندفعا الى العمل. وهذه الطريقة غيّرت وجه التعليم ككل".
ومن خصوصياتها المتعددة، "العمل في فرق او حلقات". لماذا فرق؟ "لان الكنيسة فريق"، تجيب. "نريد ان نكلم بعضنا البعض، والكنيسة ليست سلطة آمرة، بل تأتي من خلال ما سميناه محادثات وتداول في اللقاءات. ونقول دائما للمعلمين ان انشاء الجماعة داخل الصف يوازي المعلومة التي تعطونها".
في البداية، كان من الصعب على المعلمين ان يعتادوا هذه الطريقة. وتشير مكسور الى "انهم شعروا بانهم أمام امور يجهلونها، وقد آثر بعضهم الانسحاب من التعليم". وعلى الاثر، عمدت الى تهيئة علمانيين "يتمتعون بتنشئة علمية ليباشروا هذه الطريقة، وينطلقوا في التعليم الديني". وهذه التهيئة تمت من خلال دورات تدريب. "بدأنا بستة ايام عشنا فيها معا وتعلمنا، وكان الهدف امرار المنهجية والمحتوى والعيش المشترك. واتبعناها بثلاثة لقاءات اقيمت في عطل نهاية اسبوع، بما شكّل مجموعا من نحو 100 ساعة عمل لتعزيز قدرات المعلمين". وتأتي ايضا دورات اخرى متفرقة على مدار السنة لتبقي المعلمين في الوجهة المناسبة.
كذلك، كان تجاوب التلامذة مع هذه الطريقة واضحا. "شعروا بفرح"، على قولها، "وانسحب ذلك على الاهل الذين كانوا يعبرون ايضا عن سعادتهم بما كان ينجز مع اولادهم". ومن الايجابيات التي اظهرها الاولاد، بفضل هذه الطريقة، ولاحظتها مكسور، "مشاركتهم في التعليم، تعبيرهم عن آرائهم، عن صلاتهم الذاتية، بعدما كنا نواجه صعوبات على هذا الصعيد. لقد بات الولد قادرا على توجيه صلاة من القلب مباشرة. نحن نبني انسانا بكليته، لان التربية المعتمدة تتوجه ليس الى فكر الانسان فحسب، انما ايضا الى جسده وحواسه. تتوجه الى كل الانسان بكل كيانه".
"منهجية متسلسلة ومتكاملة"
بعد اكثر من 28 عاما من العمل المتواصل والمكثف، والى جانب مجلتين واضحتي الهدف والوجهة: "إكو" تصل الى نحو 4 آلاف طالب، و"كاتا" الى 500 معلم، بات في رصيد المركز مجموعة متكاملة من كتب تعليم ديني تغطي كل الصفوف المدرسية، من الحضانة الى الثانوي، "ضمن منهجية واضحة ومتسلسلة ومتكاملة، وتبعا لمنطق يتبع الطالب وفقا لعمره"، تقول. "نقدم التعليم المسيحي كلولب. العمر يتغير. اما الرسالة فهي نفسها، وتعطى الطالب وفقا لعمره وقدرته الاستيعابية".
نجاح الخبرات المتراكمة على مرّ الاعوام كان وقود الخطوات المتلاحقة التي طالت كل الاعمار، "من 3 اعوام الى 18 عاما". "ما يميّزنا، واعتبرنا انه يشكل خطوة كبيرة، هو تدريب المربيات في صفوف الحضانة على انعاش الايمان بانفسهن لدى الاولاد، بدلا من جعل ذلك من مهمة معلمات التعليم الديني". ومن الميّزات ايضا، انتشار كتب المركز، ليس في لبنان فحسب، انما ايضا في عدد من الدول العربية والخليجية، مع ما يستتبع ذلك من إقامة دورات تنشئة لمعلمي التعليم المسيحي هناك.
الثمار التي أعطاها المركز ملموسة، لاسيما من خلال اصداراته ودورات التدريب التي ينفذها والفئات التي يطالها بنشاطاته وارشاداته. وتقول مكسور: "العمل الذي انجز يجمع نحو عشرة في فريق واحد، والله اشتغل اكثر منا. ومشروعنا الذي سمّته رئيستنا العامة حبة الخردل صار شجرة، والرّب وحده هو الذي ينميها. وكل مرة التقي جماعة، انمو وآخذ منها. لقد كنت متلقية بقدر ما اعطيت". وتبقى طموحاتها ما تعبّر عنه في مقدمة احد الكتب: "يا اولادي الذين اتمخض بهم الى ان يتصور المسيح فيهم. هذا هو طموحي، ان نصير مسيحيين، وان يصير اي انسان بالغ معلم تعليم مسيحي، ويكون صورة المسيح".
كتبت هالة حمصي
السبت 07 آب 2010
- 1206 views